تبا لتجار هذا الزمان وسماسرته الذين لم يدعوا مكانا للقيم ولا الأخلاق ، فصار كل شيء لديهم قابلا للبيع حتى الأمانة والشرف .. فاستباحوا الرذيلة وداسوا بأقدامهم كل المعاني النبيلة ، وأصبح مبدؤهم الأوحد " الغاية تبرر الوسيلة " .
وأخشى من التجار ذلك النوع الذي يستطيع أن يمارس أكثر من تجارة في وقت واحد . فأكثر بضاعته الكلام .. يلف ويدور حولك واهما إياك أنك الرابح في النهاية وأنه لا يبغي سوى مصلحتك ، فيبيع لك الترام والهرم والبرج ونهر النيل وبعد أن يبيع لك الهواء يبيعك بثمن بخس . وسعدون من هذا النوع ..
لا أدري متى تعرفت به .ولا الظروف التي دفعت به في طريقي ، ولكن هكذا ظهر في حياتي ،ولبد داخل كياني كالفيروس الخطير الذي لا يترك الجسد ولا بالطبل البلدي وفي نفس الوقت لا تفلح معه أي طعوم أو أمصال . فرجل مثل سعدون يستطيع أن يغير جلده وشكله ولونه كل لحظة .
ولأنني صديقه الأوحد كنت ضحيته الأولى .. فاعتاد أن يمارس معي مواهبه الفريدة مستغلا صداقتنا ، فعندما كنا صغارا نرتع في سني الطفولة البريئة باع لي سعدون دفتر توفير البريد الخاص بوالده واهما إياي بأنني سأحصل منه على ثروة طائلة، وصدقته حتى اكتشفت الخدعة .. لكنه سرعان ما رجع آسفا نادما على فعلته الشنعاء واضعا أمامي سيلا من التبريرات والأعذار .
ما أن يراني يتهلل وجهه ويتسع شدقاه حتى تبدو أنيابه كالنمر الجائع الذي عثر على فريسة بعد طول انتظار، ثم يبدأ في معاتبتي بدون سبب :
- لا يا ويزا لا .. شهر يمر دون أن تقول أزور صديق العمر سعدون، يخونك العيش والملح لقد كنت أنوي ألا أصافحك أبدا لكن العشرة لا تهون على أية حال وصداقة السنين لا تذوب مهما حدث بيننا من خلاف .
وويزا .. ليس اسمي بالطبع ولا يوجد باسمي حرف واحد من حروف كلمة " ويزا "، لكن أطلقه علي " سعدون " تيمنا باسم لعبة أطفال تحمل نفس الاسم يعتقد أنها جلبت له الحظ والسعادة .
يطرق سعدون قليلا ثم يقول بجدية :
- وإذا كنت أخطأت في حقك فسامحني، ماذا أفعل في قلبي الطيب الذي لا يستطيع أن يحمل لك ضغينة أو حقدا . فأنا إنسان بلا أجنحة كما تعلم وأنت جناحي اللذين أحلق بهما .
بهذه الكلمات كان سعدون يذيب ما بيننا من جليد ويحطم ما نشأ من جبال وعراقيل . لكن سرعان ما يبدأ التاجر الكامن في أعماقه بالتحرك، فيدفع لي بورقة وهو يقول :
- خذ هذه .
بتردد تمتد يدي إلى الورقة وأنا أتساءل :
- ما هذه يا سعدون ؟
- خذها ولا تخف . حظك حلو أنك قابلتني اليوم .
تجري عيني على الورقة مستعرضة بنودها العديدة بينما يمضي سعدون في عرض بضاعته ممارسا هوايته التجارية الفريدة وقدرته الرهيبة على الإقناع فأتحول في لحظة من صديق إلى زبون .. هكذا كان سعدون يحسب لكل شيء حسابه . لغته الأرقام . مشاعره مرتبطة برقم سيحصل عليه في النهاية . الربح هو الحقيقة الوحيدة في حياته أما الخسارة فلا معنى لها .
ذات يوم وجدته يهرع إلي يطلبني على عجل، حاولت أن أستفسر منه عن السبب فصاح بحدة :
- دع ما في يدك واتبعني على الفور .
ذهبت معه إلى البيت لأجده قد تحول إلى حظيرة دواجن .. سألته بدهشة :
- سعدون .. ما هذا ؟
ضحك وهو يسن السكين :
- كما ترى .. دجاجات من جدود الدواجن أطعمتها وعلفتها وسمنتها وحان وقت السكين .
لم أفهم شيئا . في بداية الأمر ظننت أن سعدون يحاول أن يكفر عن أفعاله معي ومع غيري فقرر أن يذبح هذا الذبح العظيم لوجه الله . أمسك سعدون بأول دجاجة وعمل فيها السكين وهو يكبر بصوت عال ، ثم ألقى بها على الأرض تاركا روحها تخرج في هدوء وأمسك غيرها وهو يحدثني بصوت أجش :
- محدش بياكلها بالساهل .
كنت أتأمل الدجاجة الأولى وهي ترفس وتفرفر وتضرب الهواء بأرجلها محاولة التشبث بالحياة التي حرمها منها سعدون، وقد تخضب ريشها بالدماء . ألقى سعدون بالثانية لتلحق بأختها وأمسك الثالثة :
- لا تدري يا ويزا كم تعبت من أجل الحصول على هذه الدجاجات .
- كان الله في عونك يا سعدون . تأكد أن عمل الخير جزاؤه الجنة . لكن ما كان ينبغي ذبح هذا العدد من الدجاج . كان يكفي خمسة أو عشرة والأجر والثواب عند الله .
أسرع يقول وهو يلقي بالرابعة بلهجة الخبير المتمرس :
- خمسة أو عشرة لا تنفع يا ويزا
قلت محدثا نفسي بصوت خفيض :
- معك حق، فأفعالك معي لا يمحوها سوى ذبح مائة عجل وليس دجاجة . عظم الله أجرك يا صديقي وغفر ذنبك وتقبل نذرك .
قطب حاجبيه لدى سماعه كلمة النذر وصاح وهو يلقي بدجاجتين مذبوحتين مرة واحدة :
- نذر ؟
- بالطبع، فالخطايا والذنوب لا يمحوها غير الصدقات والنذور .
ضحك وهو يجري بالسكين على رقبة دجاجة بعنف ويقول :
- يالك من ساذج يا ويزا . هذه طلبية كنت قد قبضت عربونها وسوف أقوم بتسليمها اليوم .
- طلبية . أ لك يد في الدجاج أيضا ؟
- التجارة شطارة يا صديقي ، والدجاج سلعة مثل أي سلعة .
- ومن المجنون الذي تاقت نفسه للدجاج حتى يشتهيه بهذه الصورة البشعة ؟
أومأ وهو يبتسم بثقة :
- هذا ليس دجاج يا ويزا . بل ديوك رومي .
صرخت :
- وهل سأتوه عن الديوك الرومي يا سعدون . إنها دجاجات بلا شك وها هي أعرافها الصغيرة ناتئة فوق رؤوسها وقد هربت منها الدماء .
ألقى بدجاجة أخرى فوق الجثث التي ملأت البانيو وقال :
- من اليوم هي ديوك رومية .. فقد طلب مني رجل ميسور أن أحضر له عشرين ديكا روميا مذبوحين ومقطعين لعمل وليمة ضخمة، فأحضرت هذه الدجاجات الكبيرة وحقنتها بهرمونات ديوك رومية لتأخذ نفس الطعم ، وبعد الذبح والتنظيف والتقطيع يتوه الجميع في المرق، فلا تعرف هذه من تلك .
صرخت في انفعال :
-هذا غش يا سعدون . نصب . احتيال ..
دفعني في كتفي بيده الملوثة بدماء الدجاج وهو يقول :
- ستظل طول عمرك غبيا يا ويزا . هذه الدجاجات السمينات أبرك ألف مرة من الديوك الرومية ، فهي سهلة الهضم خفيفة على المعدة والأهم من ذلك خالية من الكوليسترول .
رحت أتطلع إلى وجهه والعرق يتصبب عليه وفمه المفتوح حتى بدت أنيابه ويداه الغارقتان في الدماء، فأحسست أنني أمام دراكولا وخشيت أن تمتد يده بالسكين نحوي ويذبحني أنا الآخر كالدجاج .
أسرعت من أمامه بينما كان ينادي خلفي :
- ويزا . ويزا . انتظر . من سينظف تلك الديوك الرومية معي .
أفضل شيء فعلته أني قاطعت سعدون ، فليس سعدون بالصديق الذي تطمئن النفس إليه ويظهر وقت الشدة ، وليس المكر والخداع من شيم الأصدقاء ..
لم تمض غير أيام قلائل حتى وجدته أمام البيت مطأطئ الرأس يقرصه الندم ويعضه تأنيب الضمير ، ما أن رآني حتى ألقى بجسده الضخم علي وهو يجهش ويقول :
- سامحني يا ويزا واصفح عني فأنا مكسور الجناح وأنت جناحي . لعن الله الشيطان الذي دخل بيننا وأفسد صداقتنا .
هل رأيت يوما سمكة تأكل الطعم إلى نهايته وتستلذ به .. تمضغه وتبلعه ، وأخيرا تلعق بلسانها السكين الذي غرس به الطعم بل وتغرسه بدورها في فمها لتتعلق في سنارة الصياد .. أجل كنت أنا تلك السمكة .. صدقت سعدون وأنا أعلم أنه لن يتغير وأن الداء متغلغل في أعماقه ..
سافرت في بعثة إلى الخارج للحصول على الدكتوراه وعند عودتي كانت دهشتي كبيرة عندما رأيت سعدون في استقبالي بالمطار . لم أنس بعد أننا في قطيعة منذ آخر لقاء بيننا لكنني أكبرت له موقفه النبيل هذا .. ما أن رآني حتى عانقني بحرارة وبللت دموعه خدي وراح يقول :
- لا أستطيع أن أصف لك يا صديقي العزيز كم مرت علي هذه السنوات الطوال ، شعرت فيها أني بدون أجنحة .
نظرت له مليا لأتحسس مواطن التغير فيه وأنا أقول :
- تغيرت كثيرا يا سعدون .
يبدو أنه فطن إلى ما أرمي إليه فهز رأسه وراح يعبث بلحيته وقال :
- لا تنظر إلى وجهي ولا للحيتي يا ويزا ، فقد تغيرت من داخلي أيضا . وهذا هو الأهم .
ثم سكت قليلا وبادرني :
- ها يا ويزا . ما الذي تنوي فعله بالدكتوراه التي حصلت عليها ؟
رحت أقول محدثا إياه بينما راح يدير محرك سيارته وينطلق بها :
- لا أدري يا سعدون، فكما تعلم أن تخصصي هو الهندسة الوراثية وبالتحديد زراعة الجينات وهذا الموضوع مازال حديثا هنا في مصر .
ضرب ركبتي بيده الثقيلة وهو يقول :
- لا يهمك . الحل عندي .
قطبت حاجبي في دهشة بينما راح يرسم ابتسامة واسعة ويقول :
- سأشاركك .
وكأن صاعقة هوت فوق رأسي فرحت أقول :
- ثانية . مستحيل . لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين . لنكن أصدقاء أفضل يا سعدون .
قبض على يدي بقوة وهو يقول في إصرار :
- لا تتعجل يا ويزا . كعادتي بك دائما مندفع واندفاعك هو الذي يضيع منك الفرص . أنصت لي جيدا . سنفتتح مستشفى على أحدث طراز لن تدفع مليما واحدا . أنا برأس المال وأنت بالخبرة .
بدأت الفكرة تروق لي بالرغم من معرفتي الجيدة بسعدون، فليس سعدون بالمغامر الذي يضحي بعدة ملايين من أجل شخص حتى ولو كنت أعز أصدقائه ويزا .. رحت أقول :
- ولكن الطب مهنة غير مربحة يا سعدون كما تظن وقد تخسر مالك كله بلا طائل .
أجاب بحكم الواثق :
- لا شأن لك بي . كل ما عليك أن توقع على العقد .
صدقته ووقعت العقد وخلال أشهر قليلة كان المستشفى مقاما ومعدا لاستقبال مرضاه أصدق تعبير عنه "مستشفى خمس نجوم" بدأ الشك يساورني . ما الذي يفكر فيه سعدون ؟ .. صدقت ظنوني عندما دس داخل المستشفى طبيبا أعرفه جيدا . لا يمكن للرحمة أن تجد طريقا إلى قلبه ، فقد أجرى عدة عمليات مشبوهة فصل بسببها من نقابة الأطباء وحكم عليه بممارسة المهنة . ولكن الأيادي الخفية تصنع المعجزات وها هو قد عاد ثانية ليمارس المهنة من جديد . ورأيت في هذا الطبيب وجها آخر لعملة سعدون .
بدأت أراقبهما عن كثب حتى سمعت بأذني ما أكد ظنوني . اتفاق سري على بيع عدة أعضاء بشرية بمبالغ خرافية سيحصلون عليها من مرضاي . كدت أبلغ الشرطة لولا فكرة مدهشة طرأت على خاطري . سعدون . أجل هو الرأس المدبر الذي يخطط لكل عملية المقصود بها الحصول على المال بكل الوسائل مشروعة كانت أم غير مشروعة . إذن لابد من قص أجنحة سعدون .
في الصباح التالي كان سعدون ممدا أمامي في غرفة العمليات بعد أن أقنعته بأخذ عينة من دمه لعمل بعض التجارب عليها ، ولا أخفيكم سرا دفعت فيها مبلغا من المال بعد أن أخذ يساومني بحجة أن دمه ليس دما عاديا وإنما كلفه الشيء الكثير . وتحت المجهر الإليكتروني بدأت أفحص خلايا سعدون . كنت أريد أن أصل إلى الخريطة الجينية لسعدون فكما يستطيع العلم تجميل أجسادنا عليه أيضا أن يجمل في صفاتنا .
لم يكن سعدون بحاجة إلى تغيير صفات بقدر ما يحتاج إلى خريطة جينية جديدة تحمل صفات شخص آخر ليست الحياة عنده مغلقة على المكسب والتجارة والحسابات ، فقد كان التاجر الذي بداخل سعدون يبرز لي من داخل كل خلية ومن خلف كل جين فكنت ألاحقه بخلايا بديلة منزوعة من أجساد فنانين وأدباء وشعراء مشهود لهم بالرومانسية والشاعرية وزهدهم في المال والتجارة .
داخل غرفة العمليات تم كل شيء ، وأرجو ألا يفهم عني أني أخليت بأمانة مهنتي وقدسيتها . بل إن القسم الذي أقسمته هو الذي دفعني إلى ذلك العمل الإنساني . فما أجمل أن تختار صفات صديقك بنفسك بما يتلاءم مع صفاتك .
بدأ سعدون يفتح عينيه ببطء . تلفت حوله في أنحاء الغرفة . راح ينظر لي مليا وهو يتساءل :
- أين أنا ؟
طمأنته قائلا :
- اطمئن يا سعدون أنت في المستشفى .
- المستشفى . هل وقع لي حادث .
- أبدا أبدا . أنت بخير .
بدأ سعدون يترك فراشه ويدور في أنحاء الغرفة :
- لماذا لا تفتح النافذة . أريد أن أرى ضوء الشمس الوليد وهو يبزغ في الأفق . من فضلك شغل لي موسيقى .
كنت أسمعه غير مصدق :
- سعدون أنت .
بدأ سعدون يرقص على أنغام الموسيقى لأول مرة ثم توقف محدثا إياي :
- أشعر أن شيئا قد تغير داخل كياني ، كأنني ولدت اليوم فقط ، أو أنني شخص آخر لا أعرفه ولكنني سعيد به .
عانقته بحرارة وأنا أقول بتأثر :
- حمدا لله على سلامتك يا سعدون . يا صديقي القديم . أقصد صديقي الجديد . أنت بالفعل ولدت اليوم فقط إنسانا جديدا كنت أراه فيك طيلة عمري دون أن أعثر له على أثر . كم تمنيته مضطر أن أخبرك بكل شيء الآن فهذا حقك ، وأرجو أن تسامحني .
قصصت على سعدون كل ما حدث وبعد أن انتهيت فوجئت به يجهش وهو يعانقني ويقول:
- لا أدري كيف أشكرك يا صديقي . ليتك فعلت معي هذا من زمن ، فالحياة ليست أرقاما وحسابات فقط . هناك أشياء أخرى أكثر قيمة وفائدة .
ثم جفف دموعه وأردف :
- تبا لتجار هذا الزمان وسماسرته الذين صار كل شيء لديهم قابلا للبيع . صدقني أنا لست كذلك لكنهم هم الذين دفعوني للسير في هذا الطريق . من أجل ذلك سأنتقم منهم جميعا . سآتي بهم إلى هنا لتغير خلاياهم وتقضي على نفوسهم المريضة الجشعة .
برقت عيني ببريق النجاح والانتصار وأنا أقول مؤكدا بحماس:
- أجل . أحضرهم لي واحدا واحدا ودعني أنتزع خلاياهم المادية القذرة لأزرع بدلا منها خلايا وديعة رقيقة تشعر بالجمال وتحس به .
عندئذ فوجئت بسعدون ينتفض في فراشه ويصيح وهو يهز سبابته في وجهي :
- ولكن لا تنس عمولتي 40 % من تكاليف كل عملية يا ويزا .