انتزعني جرس الباب من نومي انتزاعا برنينه المزعج الذي يصم الآذان ويقلق الموتى في قبورهم ، وجاءني صوت عم عبده " الزبال " من الخارج :
- الزبالة يا أستاذ محجوب .
صحت بصوت مازال يغط في النوم :
- حاضر يا عم عبده حاضر .
أحضرت سلة القمامة من المطبخ وسرت حثيثا أحك قدمي بالأرض ، فتحت الباب وأنا أتثاءب في تكاسل وعيناي نصف مفتوحتين نصف مغمضتين . استرعى انتباهي شيء نفض ما تبقى من نوم بعيني ، ففتحتهما على مصراعيهما وأنا أنظر إلى عم عبده . فركت عيني بإبهامي فاغر الفاه غير مصدق . هل جن عم عبده ؟ أم أنني لم أستيقظ بعد ؟
كان عبده الزبال واقفا بالمقلوب ، رأسه في الأرض وقدماه في الهواء دون أن يعوقه هذا الوضع من فض سلال القمامة في قفته التي يحملها فوق ظهره الأحدب . صرخت رغما عني:
- عم عبده . لماذا تقف مقلوبا ؟
نظر لي عبده بدهشة وهو يصيح :
- سلامة نظرك يا أستاذ محجوب . هاأنا أقف أمامك معدولا . يبدو أنك مازلت نائما . أدخل لتكمل نومك .
قال هذا وهو يدفع لي بسلة القمامة الفارغة وينطلق مقلوبا إلى الطابق التالي . دخلت واستلقيت على سريري عائدا إلى النوم ، لكنني لم أنم . مازال عقلي يفكر في عم عبده المقلوب . إنني لم أكن نائما ، لقد رأيته بالفعل مقلوبا . ولم الحيرة ؟ فلأتأكد ..
أسرعت إلى الباب ثانية . فتحته . رحت أنادي على البواب :
- سليمان . يا سليمان .
- أي خدمة يا أستاذ محجوب ؟
- اطلع حالا . أريدك في أمر هام .
جاءني سليمان يسعى فوق الدرج ، ولدهشتي كان مقلوبا أيضا مثل عبده الزبال . خفق قلبي وصحت بنبرة مرتعشة :
- حتى أنت يا سليمان ؟
نظر سليمان إلى نفسه وسألني :
- ماذا بي يا أستاذ محجوب ؟
كدت أصارحه لولا أنني أمسكت عن الكلام ودخلت إلى شقتي كي أتأكد أكثر ، فربما الكأسان اللذان تجرعتهما بالأمس مع ندماء السوء قد أدارا رأسي وجعلاني أرى الناس والأشياء من حولي مقلوبة .
اتجهت إلى النافذة . عندما فتحتها وجدت كل شيء مقلوبا . الناس . السيارات . البيوت . حتى القطط والكلاب . دارت الدنيا من حولي ، وشعرت أنني سيغمى علي ، فألقيت بجسدي على مقعد قريب وأنا أمسك رأسي وأتساءل :
- ما الذي أصاب الناس ؟ هل تقليعة جديدة اتخذها الناس مع بداية القرن ؟ أم مس من جنون قلبهم رأسا على عقب ؟ أم أن الحياة لم تعد تحتمل الاعتدال فصار كل شيء فيها مقلوبا ؟
مرق برأسي خاطر غريب . هل أنا أيضا مقلوب مثل الناس ؟ أم أن الانقلاب لم يعترني بعد أسرعت إلى مرآة حجرة النوم . نظرت فيها . لدهشتي وجدتني أقف معدولا . رحت أرقص أمام المرآة وأغني في سعادة :
- أنا معدول . أنا معدول …
توقفت عن الرقص والغناء لأتساءل :
- ما جدوى أن أكون معدولا والناس في عيني مقلوبون . بالتأكيد هناك سر وراء هذه الظاهرة الغريبة التي طرأت على الناس والأشياء .
ارتديت ملابسي بسرعة وبعد ثوان قليلة كنت في الشارع أحملق في الناس والأشياء . الكل مقلوب .. رؤوس تمشي على الأرض وأرجل تضرب الهواء . قد يكون العيب في وليس في الناس .. الأمر بحاجة إلى استشارة طبيب متخصص .
استقللت سيارة مقلوبة . يقودها سائق مقلوب . انطلقت بي في شارع مقلوب . لتتوقف بي أمام عمارة مقلوبة . التهمت درجاتها سريعا حتى وصلت إلى عيادة طبيب العيون . كان المرضى يجلسون في صالة الانتظار وهم مقلوبون . أمرني " التومرجي " المقلوب أن أنتظر حتى يحين دوري . بعد فترة نادى علي . دخلت ليطالعني الطبيب مقلوبا . سألني :
- مم تشتكي ؟
صحت بصوت لاهث أرهقه الخوف والقلق :
- أرى كل شيء مقلوبا يا دكتور .
دون أن ينطق أشار لي نحو " الشيزلونج " . تمددت عليه . راح يتفحصني باهتمام . فتح عيني ووجه نحوهما ضوءا شديدا غشاهما ، أخذ يتأمل قاع عيني الماثل أمامه على الشاشة . انقلب وجهه فجأة وسألني :
- منذ متى وأنت ترى الأشياء مقلوبة ؟
- اليوم فقط يا دكتور .
هز رأسه وهو يقول بلهجة محبطة :
- انحراف البصر البؤري .
ثم تركني واتجه نحو مكتبه وراح يدون بعض الملاحظات . تبعته كتائه ضل طريقه داخل مدينة غريبة وأنا أقول :
- هل هناك خطورة ؟
ترك القلم ونظر في وجهي وهو يقول :
- لن أخفي عليك . لقد أصاب عينيك مرض غريب لم نتعرض له من قبل . لا أدري كيف حدث لك هذا . فأنت تعلم يا عزيزي أن بؤرة العين تنطبع عليها صورة الأشياء بالمقلوب ، لترتد مرة أخرى على الشبكية فتراها العين معدولة . الذي حدث لك بالضبط أن بؤرة العين لا تستطيع أن تقوم بتعديل الصورة وبذلك تظل الأشياء أمام عينيك مقلوبة .
- والعمل يا دكتور ؟
- كما قلت لك المرض نادر والحالة جديدة علينا وأمامنا عدة سنوات قبل أن نتمكن من إيجاد حلول لهذه الحالة . كعمل نظارات تقوم بتعديل الصورة أو تركيب عدسات لاصقة .
- معنى هذا أن أعيش بقية عمري بعين ترى الأشياء مقلوبة .
ترك مكتبه وراح يربت على كتفي مواسيا ومشجعا :
- غيرك يعيش عمره كله دون أن يرى .
- ولكنه يرى بقلبه الناس والأشياء معدولة وليس مثلي أراها مقلوبة .
جلس أمامي واضعا ساقا فوق ساق وهو يقول بلهجة فلسفية :
- ما أدراك ؟ لعل عينك المقلوبة هذه ترى الأشياء على حقيقتها . وغدا ستعتاد ذلك ويكون الأمر طبيعيا بالنسبة لك .
تركته وقد حزمت أمري على أن أتعرف على حقائق الأشياء بعيني المقلوبة ، مدربا عقلي على القيام بتحويل الصور المقلوبة إلى حقائق معدولة .
رحت أجوب الشوارع والطرقات والأزقة أتفرس في وجوه الناس المقلوبة رؤوسهم تلامس الأرض . أقدامهم تضرب الهواء ، فتنتابني أحاسيس متضاربة بين السخرية والأسف . أتأمل الأبراج والأبنية العالية التي كنت أراها تناطح السحاب فإذا هي الآن مقلوبة . أسطحها مغروزة في الأرض ومداخلها تناطح السحاب . أعلامنا وراياتنا التي كانت ترفرف في الهواء تتعلق بها أعيننا في إجلال وتقديس أراها اليوم بعيني المقلوبة مطموسة في التراب وصواريها واقفة جرداء مزعزعة في الهواء ، كعود يابس اشتدت به الريح في يوم عاصف . مررت بزعمائنا الذين يربضون في مياديننا الشهيرة في شموخ وإعزاز لدهشتي وجدتهم مقلوبون على رؤوسهم في ذل وانكسار . جن جنوني .
قادتني قدماي إلى الأهرامات الثلاثة لأرى رؤوسها مثبتة في الأرض وقواعدها تنظر إلى السماء .. كدت أبكي . بل بكيت بالفعل . رموز حضارتنا وتاريخنا المجيد الذي نفخر به على مر العصور أراها في عيني مقلوبة رأسا على عقب . لم أحتمل كل هذا الانقلاب . أية كارثة هذه التي حلت بعيني ؟ . أهون علي أن أفقأهما من أن أرى الحقيقة مقلوبة .
دون أن أدري وجدت نفسي أندفع بجسدي إلى الأمام . أتشقلب في الهواء كالبهلوان . رأسي إلى أسفل . قدماي في الهواء ، وقررت أن أنقلب .
بالرغم من أنني صرت أضحوكة بين الناس ومثارا لسخريتهم ونكاتهم السخيفة فقد كنت سعيدا لأنني استطعت أن أرى حقائق الأشياء كما ينبغي أن أراها دائما معدولة ، حتى لو صرت وحدي مقلوبا .