زهرة في كتاب العمر*قصة : صلاح معاطي هي زهرة في كتاب العمر المنسي .. لم أصدق عيني عندما رأيتها تدخل المصعد
وتتخذ لنفسها ركنا فيه وتسند رأسها على جداره في انتظار الطابق الذي تقصده ،
والتقت عينانا في نظرة خاطفة فانتبهت لتصيح في شبه صرخة :
-
أنت
؟ ..
كنت أحدق فيها وأنا أصيح بنفس نبرة الصوت :
-
أنت
؟ ..
راحت تمد يدا ندية بللها عرق المفاجأة :
-
ياه
..أ نلتقي بعد كل هذه السنين ، وأين ؟ في
المصعد ..
أومأت وأنا أطلق زفرة عميقة :
-
خمسة
وعشرون عاما يا زهرة .. ربع قرن من الزمان .. أحيانا أشعر أنها انقضت سريعا ،
وأحيانا تتمثل لي أحداثها فأشعر بثقلها ومرارتها ..
أسرعت تقول :
-
لم
تتغير بعد يا خالد ، كأنني أراك بالأمس القريب .. ثمة بعض شعيرات بيض بدأت تطل من
رأسك ..
-
أما أنت فقد تغيرت كثيرا يا زهرة ..
-
ثلاث مرات حمل وولادة ، بالإضافة إلى هموم
الأولاد ومشاكلهم التي لا تنتهي ..
هززت رأسي عجبا :
-
معقول
جدا ، فقد تزوجت صغيرة ..
-
سبعة عشر عاما ونصف .. وأنت ؟
-
تزوجت وأنجبت ولدا وبنتا ، فليس من المعقول أن
أظل ربع قرن أبكي على الأطلال ..
أطرقت في سكون برهة حتى توقف المصعد ظننتها ستخرج منه ، لكنها ظلت كامنة في
ركنها حتى قلت لها :
-
أ
لديك مانع أن نقضي معا بعض الوقت ؟
وكأنها كانت تنتظر مني ذلك فأسرعت تقول :
-
كما
تريد ..
خرجنا سويا من المبنى الذي التقينا فيه .. أوقفت سيارة تاكسي .. أمرت
سائقها بالتوجه إلى منتدى العشاق .. وجدتها تنتفض لسماعها الاسم فسألتها :
-
أ
مازلت تذكرينه ؟
ابتسمت في رقة فشعرت أن وجهها استعاد الربع قرن الذي ولى وقالت :
-
لم
أنسه لحظة واحدة ، بل لم أنس شيئا على الإطلاق .. شريط سينمائي طويل عمره أكثر من
ربع قرن يدور أمامي كل حين ..
احتوتنا فترة سكون ، ووجدت نفسي أبتسم داخل سيارة التاكسي .. كنت أشعر
بسعادة غامرة لهذه الصدفة التي لم تكن في الحسبان ، فبعد مرور هذه السنين التقينا
، كأننا نصفان لإنسان واحد أبعد الدهر بينهما حينا ، فكان كل منهما نصف ميت ، ولما
أعيد أحدهما إلى الآخر صار جسدا واحدا دبت فيه الحياة وردت إليه الروح ..
فما أجمل أن يرى الإنسان نفسه بعد طول غياب ، فقد رأيت في عينيها صبيا يخطو
سنوات عمره الأولى وهو متأجج العاطفة .. يبحث ويتأمل ويعجب ويحب دون أن يدع هما
لمشاكل الحياة .. فالحياة عنده كانت أحلاما وردية تتخايل على صفحة نهر ، أو أوراق
صفصافة تتهادى مع نسمة صيف ..
ورددت في لحظة صبيا ، ذلك الصبي الذي كان يكتب على أوراق الشجر، ويجمع
بقايا الأشياء ليحتفظ بها في صندوق صغير يدسه في مكامن الغيوب بعيدا عن العيون ،
يحوي كل الأشياء الصغيرة التي جمعتهما في الزمن البعيد .. تذكرة أتوبيس ، لفافة
لبان بابلي ، علبة "تشيكلتس" فارغة ، كارت مهدى في عيد ميلاد ، ورقة
منتزعة من كتاب الجبر رسم عليها قلبان بداخل كل منهما حرفان ، وأخيرا زهرة جافة
محفوظة في كتاب بالرغم من تيبسها بعد مرور هذه السنين فمازالت تحتفظ برائحتها ..
وسرعان ما أدركت أن الطفولة لا تموت ، بل تجدد نفسها ، وانتبهت على صوتها
وكأني به لفتاة في الخامسة عشرة من عمرها ، وقد زايلتها نبرة الكهولة وحدة الزمن :
-
خالد
.. فيم تفكر ؟
أجبت في وجوم :
-
كنت
أفكر في الزمن الذي ولى وانصرم من بين أيدينا رغما عنا ..
-
ولكننا بالتأكيد حققنا فيه بعض أحلامنا ..
تزوجنا وأنجبنا أبناء ، أحاول جاهدة أن أؤمن مستقبلهم ..
-
أ سعيدة أنت يا زهرة في حياتك ؟
أطرقت قليلا قبل أن تجيب :
-
لا
تسلني عن السعادة ، فسعادتي الآن مرتبطة بسعادة الأبناء .. أما أنا فصرت شمعة
تحترق من أجلهم .. وحسبي هذا ..
كنا قد وصلنا إلى المنتدى الذي لم يغيره الزمن ، فما زال في مكانه الثاوي
على ضفاف النيل ، يحوم من حوله العشاق من جميع الطبقات كأنهم يحلقون حول أثر مقدس
.. ولجنا من بابه الذي صنع على شكل قلب ، واتخذنا سبيلنا إلى حيث مكاننا الأثير في
ركن من المنتدى ، وكأن أقدامنا تحفظ الطريق عن ظهر قلب .. وجدنا مكاننا المعهود
خاليا كأنه أبى أن يشغله أحد سوانا ..
جلسنا متقابلين نتفقد المكان الذي ضم حبنا في الزمن البعيد .. كان هناك
فتيان وفتيات في عمر الزهور يرقصون في عصبية وانفعال على أصداء موسيقى صاخبة تعزف
ألحان الزمن الجديد .. بالقرب منا شاهدنا اثنين يجلسان على مائدة مستديرة ، وقد
أحاط ذراعه بجسدها نصف العاري ، وراح يقول بصوت أجش وصل إلى مسامعنا :
-
أحبك
من كل " كلبي "..
رنت ضحكة خليعة تردد صداها في أرجاء المكان ، وهي ترجع بظهرها إلى الوراء :
-
كلبك
.. طب روح هوهو بعيد ..
وفي ركن قصي خافت صنع خصيصا لأصحاب الهوى وبأسعار خاصة تعانق جسدان والتقت
شفتاهما في قبلة محمومة .. وارتدت أنظارنا مسرعة في خجل الكهولة البريء ، والتقت
عينانا مستغربة المكان والزمان معا ..
لم يكن حبنا هكذا ، فكم جلسنا متقابلين ساعات طوال في حديث صامت تديره
العيون كأنها مستغرقة في تبتل وصلاة ، تحتوينا موسيقى ناعمة تعزف معها نبضات
قلوبنا ، حتى كلمة الحب كنا نقتصدها فلا نبوح بها حتى لا تفقد معناها..
رحنا نبحث عن أي أثر يهدينا إلى زماننا الزاوي ، ووجدناه مقبلا نحونا يحمل
صينية عليها بعض الأكواب .. عرفناه معا .. عم رشاد النادل العجوز الذي شاهد حبنا
من بدايته إلى نهايته .. كان معي وأنا أتلقى الصفعة ، حينما زف إلي خبر زواجها ..
راح يهدئ من روعي ويشد من أزري ويعزيني ببعض كلمات كانت بلسما لجراحي وترياقا للسم
الذي تغلغل داخل كياني .. واستطعت بفضله أن أعبر المحنة القاسية التي واجهتني وأن
أقف على قدمي من جديد .. إنه الوحيد الذي نعرفه ويعرفنا في هذا المكان ، وسيسعد
كثيرا عندما يرانا ..
رحنا نناديه :
-
عم
رشاد .. يا عم رشاد ..
يبدو أن الرجل قد ضعف سمعه لأنه تجاوزنا كأنه لم يسمعنا ، ذهبت إليه
واستوقفته :
-
عم
رشاد .. ألا تعرفنا ؟
راح ينظر إلينا كأنه يرانا لأول مرة :
-
للأسف
يا بني .. كل يوم يورد علي أشكال وألوان فلم أعد أتبين أحدا .. ها ماذا تشربان
تبادلنا النظرات للحظات ثم نطقنا بلا حماس كمن يطلب بحكم العادة :
-
مانجو
..
جلسنا معا تحتوينا الخيبة ، رحت أقول بمرارة وحسرة :
-
يبدو
أن الرجل قد فقد ذاكرته ..
أردفت قائلة :
-
بل
إن الذاكرة هي التي فقدت الرجل وفقدتنا معه .. لقد جئنا خطأ إلى هذا المكان ..
رحت أقول كأنني لا أسمعها :
-
جئنا
لنبحث عن الماضي فلم نجد غير السراب ..
عقبت هي الأخرى محدثة نفسها :
-
جئنا
لنبحث عن الوهج فلم نجد إلا الرماد ..
-
كسيرة هي القلوب التي تتعلق بأحبال الماضي ،
والماضي محال أن يعود ..
راحت تقول بمرارة وألم :
-
ليتنا
ما افترقنا ..
-
أتظنين كنا سننجح لو احتفظنا بحبنا ؟
-
بالتأكيد ..
-
لا أعتقد ..
-
لماذا ؟
-
لأنه القدر يا عزيزتي .. القدر الذي يصنع لنا أنفاقا ، ثم يدفع بنا
داخلها كي نسير فيها دون أن ندري .. ذلك القدر الذي وضعك اليوم في طريقي وأتى بنا
إلى هنا ليخرج لنا لسانه ويسخر منا قائلا إن الماضي لا يعود ..
سألت وهي تتعلق بخيوط واهية من الأمل :
-
لماذا
لا يعود .. نحن بإمكاننا أن نعيده ..
-
كيف ؟
-
أن نعلم أبناءنا كيف يحبون حبا حقيقيا ، أن نزرع
في نفوسهم الأمل في الحياة ، أن نجعلهم ينظرون إلى الكون من حولهم كوحدة واحدة
تتفاعل معا في تآلف وانسجام ..
سكتت قليلا ثم أردفت برقة وهي تختلس النظر إلي :
-
أن
يكون بيننا لقاء كل حين لكي يعرف كل منا أخبار الآخر ، أن يسعد لسعادته ويحزن
لحزنه ، أن يكون كل منا صدى للآخر وامتدادا له ..
ضحكت في سخرية :
-
تذكريني
بلقائنا الأخير منذ ربع قرن عندما تعاهدنا على أن نلتقي كل خميس، وأنك ستنتظرينني
حتى أكمل دراستي ، وسوف تكتبين لي في منتصف الليل تماما وأنت تنظرين إلى القمر ..
بعد أسبوع واحد نكثت المعاهدة لأن القمر لم يظهر ليلتها ، وجاءني الخبر الذي زلزل
كياني وجعلني ألف حول نفسي ..
دمعت عيناها وهي تقول راجية :
-
أرجوك
لا تلمني .. إنني لا أحتمل كل هذا اللوم .. ماذا تقول في طفلة غريرة لا تملك من
أمر نفسها شيئا ، لا تدرك الخطأ من الصواب .. كل خبرتها في الحياة كلمات طالما
سمعتها ممن حولها عن غوائل الدهر وهم البنات ..
شعرت أني تحاملت عليها أكثر مما ينبغي ، فهدأت من لهجتي وأنا أقول :
-
أنا
لا ألومك .. بل إنني أختلق لك كل الأعذار ، فمن ذا الذي ينتظر غلاما في سنيه
الأولى .. تماما كالذي يبذر بذرة في الأرض ويرقد بجانبها في انتظار أن تنمو وتزهر
وتثمر .. لقد اختار كل منا طريقه في الحياة ، وأعتقد أن الزمن لو عاد مرة أخرى
لاتخذنا نفس الطريق الذي سلكناه ..
نظرت في عيني وهي تسألني برقة :
-
ترى
كيف تراني الآن ؟
أجبتها بعد فترة تفكير :
-
صدقيني
لو قلت لك إني
لا أراك ، بل أرى فتاة صغيرة كانت تصعد إلى سطح بيتهم لكي تنشر الغسيل ، وأرى صبيا
يرمقها من بعيد في إعجاب ووله .. أرى زهرة يابسة محفوظة في كتاب العمر المنسي
مازالت محتفظة بعبقها ورائحتها الذكية ..
ثم أضفت قبل أن نفترق :
-
الإنسان
يا صديقتي ليس كيانا واحدا ، بل كيانات متعددة ومتباينة ، ولو قدر لنا والتقينا
بعد ربع قرن آخر سيمر بي شريط الذكريات ويحتويني عبق الزهرة وأريجها الفواح الذي
لن يغيره مرور العمر ..
* ( السعودية -
الباحة - الرابعة من عصر الثلاثاء 15 / 9 / 1998 )