صراع المساحة
دراسة عن رواية
بونجا
للروائي المصري صلاح معاطي
بقلم الروائي التونسي الهادي ثابت
رواية صلاح معاطي "بونجا" الصادرة عن دار كلمات، تبحث من بدايتها إلى نهايتها عن المساحة. لأن هذا العالم قد ضاق بأهله ولم يعد يقبل التعايش والتسامح والأخوة. ذلك المسكين با نجا أو بونجا، بطل الروية، يقطع مئات الكيلومترات بحثا عن المساحة، من القاهرة إلى الصعيد، ومن الصعيد إلى الخرطوم وفي النهاية إلى دارفور، ولم يفز بمساحة ولو ضئيلة ترفعه إلى مرتبة الإنسان المنتمي إلى الإنسانية التي أصبحت شعارا تلوّح به كل شعوب المعمورة، لكنه ظل شعارا رنانا تزيّن به اللافتات في التظاهرات الإقليمية والعالمية. بونجا ظل يبحث عن إنسانيته منذ ولادته إلى يوم طردوه إلى إقليم لم تتحدد بعد ملامحه ولا سكانه، أرض بدون أبعاد ولا حدود ولا تحكمها دولة ولا قوانين.
ولم تكن لبونجا أي صلة مع دارفور، هو ولد بمصر ونشأ فيها وتربى في ثقافتها، لكن لم يكن له مساحة في مصر، ولا أصدقاء، ولا حتى أصول، ظل يكابد ويعاني الأمرين ليؤصّل وجوده علّه يفوز بمساحة مصرية ولو صغيرة، لكن دون جدوى، فقد رماه حظه التعيس إلى غياهب السودان، حيث تناقضات المساحة أججت المنطقة، فوجد نفسه في أتون تلك التناقضات التي تحولت إلى صراعات مسلحة، فكان مصيره أن يصارع أعداء سيتحولون بحكم صراع المساحة إلى أهله وذويه.
من البداية تدفعك الرواية في متاهات المساحات: " لو تقاس المساحات بأبعاد غير الطول والعرض لصارت الحياة أكثر اتساعا، لكن يبدو أن هذه الخطوط الصارمة الصماء الخالية من أي مشاعر ولا يعرف الحب طريقا إليها اختيرت لتكون حدودا وسدودا وموانع وأسلاكا شائكة... " الصفحة الأولى. هذه هي البداية، وهي تعلن من اللحظة الأولى عن نهايتها: "غرفة صغيرة ضيقة رطبة لا تدخلها شمس ولا هواء في أعلاها نافذة أشبه بنوافذ السجون.. بداخلها سرير يكفي لشخص واحد هو أنا.. وهذا كل شيء.." الصفحة الأخيرة.
لكن على القارئ أن يغوص في الأعماق ليكتشف ما يخبئه له الراوي من مساحات تتسع وتضيق، ومن وجوه براقة تُبهر بحسنها، وأخرى متهجمة قبيحة تثير القرف. يدفعك الكاتب إلى عالم فسيح/ضيق في الآن نفسه، فيرتفع بك إلى دنيا السحر والعجائب، وينزل بك إلى قيعان النفس الشريرة، ويكشف لك تناقضات هذا العالم المعاصر الذي طغت عليه همجية السياسة وحب الاستحواذ. يراوح بك بين الواقعية الشفافة والعجائبية الغامضة، لكنه لا يترك لك لحظة لتلتفت إلى الوراء لتسترجع أنفاسك. حالما تشرع في القراءة تستحوذ عليك الرواية وتلتف بك ولا تتركك تغادر عوالمها المتناقضة إلا عندما تكتشف حقيقة هذا العالم الموبوء بتناقضاته الصارخة.
بونجا بطل الرواية يقول عن نفسه: " أبدو كنقطة تتحرك فوق خط وهمي باهت كاسمي الذي لم يكتب حتى الآن في أي قوائم رسمية إلا بالقلم الرصاص وفي ذيل القائمة. ص:..." ولم يتوصل بونجا طيلة حياته السردية أن يرى اسمه يكتب سوى بقلم الرصاص، أي أنه ولد في الزمن المؤقت، وظل كذلك إلى النهاية، فاقدا لهوية رسمية تقيده إلى مسقط رأسه، إنه الشخصية الشاردة التي لا تبحث عن جذورها بل عن الاعتراف بانتمائها إلى الجنس البشري، ظل بونجا إذن إنسانا مؤقتا حتى يُنظر في أمره. وكل ما فعله بونجا في كل فترات حياته كان يتسم بالمؤقت، فكان تلميذا لامعا لكنه مؤقتا، ثم مهندسا كفء لكن كفاءته لم يعترف له بها لأنه مؤقت، حتى الحب الذي ابتلى به مرتين كان مؤقتا حتى بتّ فيه أولي الأمر بأنه مستحيل، لأن زمن بونجا لا يعترف بالحب إلا داخل نواميس المساحة التي تقاس بخطوط صارمة صماء خالية من أي مشاعر ولا يعرف الحب طريقا إليها... ومع ذلك فقد حاول بونجا تخطي تلك الخطوط ووقع في شراك الحب متجاهلا وضعه كإنسان مؤقت. غير أنه سرعان ما اصطدم بالواقع المرير منتبها إلى وضعه الاجتماعي الذي لا يسمح له بالحب إلا داخل المساحات المحددة. يقول بونجا معاتبا نفسه: "أُدرك تماما أن المساحة المتاحة بيني وبين نجوى ضئيلة للغاية، وأن بيننا حدودا طبيعية لا يمكن تجاوزها ولا توجد مياه إقليمية يمكنني العبور إليها، فأنا لست إلا دولة حبيسة ليس لها منفذ على البحر."
هكذا بدأت تجربة بونجا الغرامية في جو من الريبة والتحفز. لكن الحب جرفه إلي المغامرة والتغاضي عن واقعه، فإذا به يكتشف عالما غريبا لا يمت بصلة إلى عالم الحب الذي كان يحس به داخله. هذا العالم الغريب على ثقافة بونجا التي صهرته وكونت شخصيته فأوصدت الأبواب في وجهه، ولم يحاول الاقتحام، إذ من الوهلة الأولى أرهبه ذلك العالم الغريب عن ثقافته ففر بجلده، وفضل أن يعود إلى الوحدة والتيه في أرض الله بحثا عن مساحة يمكنها أن تحتويه وتستوعب رؤيته المثالية للحياة.
لم ييأس بونجا من ولوج عالم الحب كما يتصوره، مثاليا، جميلا، يرقى بالروح وبالجسد. هذا العالم لا يوجد إلا في الأساطير، فكانت الأسطورة: " انتبهت فجأة على صوت تلاطم الأمواج بعنف ولاح من بعيد شيء يرتفع على سطح البحر حتى إذا صار على البر بدأت ملامحه تتضح.. أنثى لم أر لجمالها مثيلا تتهادى بعودها الفارع الممشوق تتجه نحوي بخطوات رشيقة أقرب إلى الرقص منها إلى السير.. ص:..." هكذا بدأت مغامرة بونجا العجائبية، لكن سرعان ما تنتهي بمرارة الواقع.
حتى مغامرته الغرامية الثانية اصطدمت بذلك الواقع المرير. عندما وصل الزبد إلى فم الشكوة، وكاد أن يقطف ثمار معاناته جاءه الرد صافعا: " مع الأسف.. نحن لا نزوج بناتنا بجنوبي.. " كان الحب المسافة الوحيدة التي شعر داخلها بإنسانيته، لكن الحب مثل الأسطورة يظل رمزا، وفي حالة بونجا كان خطا وهميا لا يؤدي إلى أي مساحة.
صلاح معاطي كاتب الخيال العلمي ظل هو نفسه في سرده الواقعي، محافظا على صرامة التسلسل السردي، ودقة الوصف، وصفاء العبارة. سرد كلاسيكي ربما يقول البعض، لكنه شفاف يستحوذ على القارئ، ولا يعكر صفو متعته بالبحث عن مقاصد وشروح تشوش عليه تواصله مع مجريات الأحداث وتشابك العلاقات وبهاء الصور البلاغية.
وجدت متعة كبيرة في قراءة هذه الرواية، وأظن أن المهمة الأصلية للأدب هي توفير المتعة للقارئ وإلا لتحول إلى شيء آخر نسميه ما شئنا.