لم تكن الأمور على ما يرام أمام المؤسسة العامة للأبحاث النووية ، فقد كانت الحركة غير عادية .. زحام أمام المبنى الضخم ، محطات الإذاعة والتليفزيون تتخذ مواضعها لاستطلاع الأخبار ، وكالات الأنباء المحلية والعالمية تحتشد ليتسنى لكل منها السبق قبل الأخرى ، عربات الشرطة تشق طريقها وسط الزحام ويتقاذف منها الرجال شاهرين أسلحتهم وفي ثانية سيطروا على المبنى ، ووقف بعضهم على الباب لمنع أي أحد من الدخول، الناس تتساءل في ذهول وحيرة :
- ما الذي حدث ؟
ترددت أنباء عن تورط الدكتور " مشهور " رئيس المؤسسة في تسريب معلومات خطيرة تضر بأمن وسلامة الوطن حول المفاعل النووي الذي أنشئ حديثا بمنطقة المقطم مقابل الحصول على بعض المال . بعد قليل شوهد الدكتور " مشهور " خارجا من المبنى بصحبة رجال الشرطة يبدو عليه الانهيار وقد تشعث شعره وتهدلت ملابسه ، واندفع الناس نحوه وهم يتساءلون مستفسرين ، بينما الكاميرات تلتقط له العديد من الصور ، أطرق الدكتور مشهور قليلا ثم نظر في الوجوه المحيطة بعينين تملؤها الدموع ونطق بصعوبة :
- بايت ..
ولم يزد ، فقد دفعته الأيدي القوية نحو سيارات الشرطة التي انطلقت به مبتعدة ، تاركا على الوجوه مزيدا من علامات الاستفهام ..
- بايت .. ماذا يقصد ببايت ؟ هل اسم حركي لشخص ما ، أم أنها شفرة سرية ؟
مرت الأيام ونسي الناس الدكتور مشهور والسيد بايت الذي زج به في ظلمات السجون ليلقى أسوأ مصير . حتى تم القبض مؤخرا على الممثل الشهير " فادي رأفت " بتهمة التجسس لصالح دولة أجنبية ، وعندما سألوه وهو في الطريق إلى المحاكمة عن كيفية القبض عليه نكس رأسه وأجاب بصوت مختنق :
- بايت ..
وعاد الاسم يتردد من جديد حاملا معه الرعب والقلق ، وكلما حاول أحد فك رموزه وإزالة الغموض عنه يزداد غموضه أكثر فأكثر ، خاصة عندما قبض على الفنانة المعروفة "سوسو وجدي" في قضية آداب ونطقت نفس الاسم " بايت " عندما سئلت عن السبب ..
وراح الجميع يفتشون حولهم عن " بايت " هذا لعله يكون مختبئا تحت السرير أو داخل الدولاب أو ربما بين ذرات الهواء الذي نتنفسه دون أن ندري ليجر علينا المصائب والكوارث . واتخذ البعض من بايت وسيلة للسخرية ، فمنهم من زعم أن بايت ما هو إلا كاميرا خفية مدسوسة بيننا وأن الأمر لن يعدو في النهاية عن مزحة سخيفة . ومنهم من أكد أن " بايت " سلاح جديد مستورد من الخارج تستعمله قوات الأمن لمساعدتها في الإيقاع بالمجرمين ..
وبدأت شركات الدعاية والإعلان تتخذ من بايت شعارا لها .. " بايت يقضي على الحشرات الطائرة والزاحفة .. بايت له قوة قتل ثلاثية .. إذا أردت الأمان فاستعمل بايت .. أنا اسمي المسحوق بايت .. وهكذا .. "
بينما كان حسام رشدي مدير الشركة الدولية للتجارة يجلس أمام جهاز الكمبيوتر يقوم بحفظ بعض الملفات والمستندات الهامة بذاكرة الجهاز ، وما كاد ينتهي من بث رسالة عبر شبكة الإنترنت .. فوجئ برد غريب أمامه على الشاشة :
- نشكر لكم تعاونكم معنا .. التوقيع .. بايت
واتسعت حدقتا حسام على الشاشة وجف حلقه وراح قلبه يدق بشدة حتى كاد يغمى عليه ، كان من بين الملفات مستندات خطيرة تحتوي على تجاوزات مالية ومخالفات قانونية تضعه تحت طائلة القانون ، لذلك قام بحرق كل الأوراق التي تدينه واكتفى بحفظها على الكمبيوتر وهاهي تصل إلى السيد بايت الذي ألقى الرعب في قلوب الجميع .. لم يفق حسام من ذهوله إلا ورجال الشرطة يقتحمون المكان ويلقون القبض عليه .. راح حسام يصرخ في انهيار :
- بايت .. بايت .. بايت ..
من بايت هذا ؟ هل هو فيروس يقوم بإفشاء الملفات والمستندات الهامة ونشرها على الملأ أم أنه شخص يتلصص بطريقة أو بأخرى على أسرار الناس ، أو عقل شرير يحاول إظهار إمكانياته الخطيرة في الوصول إلى الأجهزة الشخصية للناس وقراءتها ومعرفة أدق أسرارهم ثم مطالباتهم بمبالغ طائلة مقابل سكوته وإلا سينشر كل فضائحهم على الملأ ..
وتحول الحديث عن بايت من مجرد حالات عارضة إلى ظاهرة تحتاج إلى دراسة متعمقة وبدأ الرعب يستولي على الجميع ، فما أكثر الأسرار المبثوثة داخل هذه الجهاز الخطير "الكمبيوتر " .. وراحت الواقعات تتوالى .. ملفات هامة تختفي ، مستندات خطيرة تمحى ، معلومات حيوية تتسرب ..
ها هي برامج مقاومة الفيروسات تتبع الفيروس الغريب " بايت " محاولة الإمساك به والقضاء عليه قبل أن يستفحل أمره . لكنها لم تقف له على أثر ، بل أكثرها أثبت أن "بايت " ليس فيروسا كالفيروسات المعتادة التي تقوم بنسخ نفسها أو تدمير الملفات أو إعطاء معلومات غير صحيحة تؤثر على عملية الحفظ التي يقوم بها الكمبيوتر ، وإنما ينسخ ملفات معينة من الأجهزة الشخصية للناس ثم يبث هذه الملفات عبر شبكة الإنترنت بما تحتويه من معلومات خطيرة تضر بمصالح أصحابها .
وتحول السؤال من الاستفسار عن كنه هذا الفيروس إلى ما الذي يريده السيد بايت .. راح السيد بايت يتغلغل في كل مكان ، بدأت حوادث من نوع جديد تنتشر .. منها جريمة قتل قام بها زوج ضد زوجته بعد أن دله بايت على مراسلات بينها وبين عشيقها ..
وانتحار موظف بأحد البنوك بإلقاء نفسه من الطابق السابع بعد أن أفشى بايت عن اختلاسه مبلغا كبيرا من المال من خزينة البنك بالرغم من أنه قام بتسوية الحسابات بشكل يصعب معه اكتشاف عملية الاختلاس .
والقبض على أحد المزيفين قام بطبع ورقة مالية من فئة المائة جنيه ولكن قبل أن تخرج الورقة من الطابعة كان بايت قد نشر الورقة على الجميع وأرشد عن مكان المزيف .
بات واضحا أن بايت شخص أو تنظيم يبغي إفشاء أسرار من نوع خاص ، ولا سيما الأسرار التي ينزلق أصحابها بعيدا عن الضمير الإنساني ، وما أكثرهم .. وأسرع كل منهم نحو الجهاز اللعين يمحو بنفسه ما حفظه عليه من بيانات أو معلومات قد تجر عليه الوبال ، بعد أن تحول الكمبيوتر من جهاز أمين يقوم بحفظ البيانات والمعلومات الهامة إلى جهاز "فتان" يقوم بنقل ما خبئوه داخله من أسرار على الملأ لتصبح فضيحتهم بجلاجل .. تسرب الفيروس إليهم ، ولكن بعد ماذا ، فقد حفظ بايت كل شيء وانتهى الأمر ، ومضى يبث ما بداخله على الناس . لم يفرق بين شخص ودولة ولا حاكم و محكوم ..
فها هو يعلن على الملأ البرنامج النووي لإحدى الدول التي تدعي أنها خالية من أسلحة الدمار الشامل ، وها هي ميزانية أحد المشروعات الكبرى مبينا فيها الأرقام الحقيقية التي صرفت بالفعل على المشروع والمبالغ التي دخلت في جيب أحد كبار المسئولين ، وهذه رسالة من زوجة توهم زوجها بالإخلاص والوفاء بينما هي على علاقة بشخص آخر ، وهذه وثيقة زواج عرفي حررها زوج مخادع أقنع زوجته أن تكتب جميع ممتلكاتها باسمه ليصرفها على زوجته الثانية ، وتلك مستندات شحنة مواد غذائية فاسدة جلبها إلى البلاد مستورد مات ضميره كذب وخداع ونصب واحتيال ..
سادت حالة من الذعر والفوضى . سقطت حكومات واندلعت حروب وخربت بيوت وأفلس أثرياء ، وراح كل شخص ينتظر مصيره المحتوم على يد هذا الفيروس المزعوم الذي لا يزيد حجمه عن 1 بايت فقط . وبقدر ما أفزع أناسا وكدر صفوهم وأحال حياتهم جحيما ، بقدر ما أسعد آخرين وأثلج صدورهم وتنفسوا الصعداء عملا بالمثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد" وراحوا يرددون :
- إنه سخط من الله . يسلط أبدانا على أبدان . دعهم يلاقون جزاء ما اقترفوا من آثام .
ويرد آخر :
- يوضع سره في أصغر خلقه .
ويرفعون أكفهم بالدعاء للسيد بايت أن يعلي مراتبه من 1بايت إلى ميجا بايت . وينقسم الناس فريقين . فريق راح ينظر إلى " بايت " على أنه بطل قومي سوف يظهر لهم في الوقت المناسب ليشد من أزرهم ويحقق لهم العدالة التي حرموا منها ، وفريق ينظر إليه على أنه طاغية جاء ليقضي على آمالهم وأحلامهم . لذلك يجب القضاء عليه بأسرع ما يمكن .
وتنتشر الخرافات والتكهنات حول حقيقة " بايت " فمنهم من يقول إنه عالم مجنون استطاع ضغط جسمه حتى تحول إلى موجة إليكترونية حجمها " 1 بايت " ودخل جهاز الكمبيوتر الخاص به عن طريق الأسطوانة المرنة " الديسك " ومنها انطلق إلى شبكة "الإنترنت"
ومنهم من يزعم أنه فيروس فضائي انطلق من كوكب بعيد عن الأرض وتسرب إلينا عن طريق الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض ..
ويهمس رجل في أذن صاحبه :
- من الأفضل لنا أن نوقف جميع عملياتنا الآن حتى يختفي هذا البايت اللعين .
ويرفض أحد الموردين صفقة مشبوهة بالرغم من ضخامة المبلغ المعروض عليه كرشوة ، فالجو غير آمن وبايت مفتح عينيه على آخرهما . وترفع امرأة سماعة الهاتف بيد مرتعشة وتحدث رجلا على الجانب الآخر بصوت خفيض مرتعش :
- شوقي . لن نلتقي بعد اليوم ومن الأفضل ألا تتصل بي مرة أخرى . فليس بعيدا أن يكون الهاتف أيضا مراقب من " بايت " . وينقل تفاصيل مكالماتنا إلى زوجي .
أما زوجها فقد هجر نزواته وعاد إلى بيته وعمله متمنيا أن ينسى بايت زلاته وخطاياه .
ويتحول الرعب والفزع من بايت إلى تغييرات مفاجئة في سلوك الناس وتعاملاتهم مع بعضهم البعض ، فتسود حالة من الذوق العام والالتزام والانضباط لم تكن سائدة من قبل ، فهناك رقيب خفي يحصي تصرفات الناس وتحركاتهم ولا أحد يعلم ما يمكن أن يفعله بايت في الأيام المقبلة . وقد تتخذ اللهجة التحذيرية لبايت شكلا انتقاميا عنيفا .. شيئا فشيئا تتحول الفوضى إلى نظام والعنف إلى رقة والكراهية إلى حب ..
وأمام أجهزة الكمبيوتر مازال الناس يبحثون عن السيد بايت لمعرفة سره وما الذي يريده وما يمكن أن يفعله معهم .. لكن بايت لم يعد له وجود .. كما ظهر فجأة اختفى فجأة .. صار اختفاؤه سرا غامضا . وتحول إلى رمز مختصر على شاشة الكمبيوتر عندما تضغط عليه تجد عبارة مكتوب فيها .. " لو بداخل كل منا 1 بايت لصارت الحياة أجمل بكثير "
مع تحيات
السيد بايت